ارحموا عزيزَ فنٍ ذَل

ارحموا عزيزَ فنٍ ذَل
شكل1- سقف البهو الرئيسى بالطابق الأول
المكان : مدرسة توشكى الإعدادية بنين بالإسكندرية - قصر كونت دى زغيب سابقاً
الزمان : ظهيرة أحد الأيام المشمسة – سنة 1999
دواعى زيارة المكان : بحث ميدانى خاص برسالة الماجستير فى مجال الفنون الجميلة
كانت بوابة المدرسة الخارجية مغلقة .. فقرعت عليها بقوة ثلاث مرات متتاليات، ففتح لى رجل عجوز عابس الوجه قائلاً : نعم . قلت له : أريد أن أقابل السيدة الناظرة .. فازداد عبوساً وقال : اتفضلى خُشّى! دخلت لأجد أمامى الواجهة الخارجية لقصر الكونت دى زغيب الذى طالما بحثت عنه فى شوارع الإسكندرية .. والذى كان قد اختفى خلف سور المدرسة والغابات الخرسانية أمامه وعلى جوانبه.
ورغم حالته المنهكة إلا أننى وأنا أدخل استعدت سريعاً عبق الماضى الجميل الذى كانت المنطقة كلها تتمتع به قبل حوالى خمسين عاماً ..، وللأسف فور دخولى سمعت جرساً طويلاً ..لم ألبث أن أدركت أنه جرس الفسحة.. ولكنى لم أكن بعد قد عرفت أى الطرق أسلك.. ولم يكن الحارس قد أغلق البوابة بعد..حيث كان لايزال يراقبنى وأنا أتطلع إلى أعالى الواجهة العجوز الجميلة .
وما هى إلا ثوان معدودة حتى أدركت أنى فى مشكلة كبيرة.. فلقد غطى التراب مرمى الرؤية وتلبدت الأجواء بضباب غابر لم أستطع بكل أمانة أن أرى من خلاله كف يدى..، فكانت الصدمة قوية.. أدركنى بعدها الحارس وأتى من خلفى إلى يمينى قائلاً .. "من هنا يا آنسة" .. وأشار بذراعه إلى الناحية اليمنى التى حسب اعتقادى تؤدى إلى المدخل الخلفى للقصر..
وبدأت عيناى فى التأقلم على التراب المتناثر والذى لم يكن سوى نتيجة الرمال التى تبعثرها أقدام الطلبة فى الفناء.. والذين كانوا قد انطلقوا كما القنابل المسّيلة للدموع .
خضت طريقى بينهم فى حرص إلى أن وصلت إلى المدخل الخلفى ..والذى ما أن دخلت إليه ..حتى فقدت الرؤية مرة أخرى .. فوقفت لبرهة أحاول أن أستكشف المكان الذى كان شبه مظلماً كبيوت الأشباح ..ليس به أى إضاءات .. ولكنى بسرعة أدركت أنى فى البهو الرئيسى للقصر..وشاهدت على بعد أمتار قليلة درج كبير يؤدى إلى الطوابق العليا..، فالتفت ورائى ولم أجد أحداً.. كنت وحدى تماماً . فبدأت التوجه ناحية الدرج ببطء شديد أستطيع من خلاله التعرف على جنبات المكان.. والعثور على أى من الأعمال الفنية التى كنت قد قرأت عنها فى مرجع قديم ونادر جداً يتناول وصف هذا المكان الذى كان فى يوم من الأيام عظيماً عزيزاً .
المهم .. أننى أدركت فى كل خطوة أخطوها أن السيدة الناظرة لن تسمح لى بتصوير أى شىء .. بالرغم من حصولى على تصريح من الجامعة .. كما أننى لن أكون موضع ترحيب أصلاً.. وذلك نتيجة للخبرة التى كنت قد اكتسبتها من زيارات كثيرة لأماكن أخرى بالمدينة..، فما شاهدته لن تستطيع الكلمات وصفه .. فالجدران والأسقف تمثل بيوتاً آمنة للأتربة وشبكات العنكبوت.. والأسلاك متساقطة من شتى الأركان.. والأسقف التى كانت تتجمل بلوحات التصوير الجدارى البديعة ..قد تساقطت بالكامل .. ، والنوافذ القليلة الموجودة بالمكان لا نكاد نرى من خلفها شيئاً وقد غشيت بالتراب الأسود ..، وقبل أن أصل إلى آخر درجات السلم شجعت نفسى وسحبت الكاميرا والتقطت صورة سريعة لأول سقف قابلته فى الطابق الأول (الشكل1أعلاه) ..، والذى فور صعودى إليه وجدت على يساره عدداً من المكاتب تشغله بعض الموظفات.. فابتسمت إحداهن فى وجهى وقالت: " أيوه يا آنسة .. أى خدمة" ..، فقلت لها : أنا معيدة بكلية الفنون الجميلة وعايزة استأذن السيدة الناظرة من أجل تصوير المكان وبعض الأعمال الفنية به.
قلت ذلك وأنا أكاد أضحك سخريةً لأنى لم أكن قد رأيت بعد أية أعمال فنية.. كما أنى كنت أحاول اختلاس النظر فى المكان .. عندما رأيت السقف الذى يعلونى وقد حدث له نفس ما حدث للأسقف الأخرى. المهم أيضاً أن فور انتهائى من كلماتى المعدودات ..انتفضت الموظفة واقفة .. وقالت .. اتفضلى فى مكتب الست الناظرة وأنا سوف أبلغها لأنها ليست بمكتبها" ..، وكانت قد أشارت إلى مدخل غرفة كبيرة.. فتوجهت إلى الغرفة .. لأجد مفاجئةً جميلةً تنتظرنى ..فالغرفة لاتزال تحتفظ بشىء من رونقها وكانت تتميز بالفخامة والأبهة الشكل2 ..

شكل 2 - حجرة السيدة الناظرة

وفى سقف هذه الغرفة الكبيرة احتل أحد الأعمال الفنية الكبيرة مكاناً استراتيجياً..استخدمت فيه تقنية التصوير

freso secco
..وبه أحد المشاهد التى تمثل بعض الفتيات والفتيان الذين يتسامرون أمام حدائق أحد المعابد الإغريقية القديمة ..,واتسم أسلوب التصوير به بالكلاسيكية والبراعة فى تنفيذه ..حيث أنه لم تمسسه يد بدعوى الترميم ومع ذلك فهو مازال على درجة عالية من الثبات .. الشكل 3
شكل3- تصوير جدارى فى سقف الغرفة السابقة
وعندما أتت الست الناظرة .. قابلتنى بابتسامة حذرة وعرفتها بنفسى وبهدفى من الزيارة وعرضت عليها التصريح ..كما أعلمتها بأننى قد التقطت صورةً بالفعل، فما كان منها إلا أن رفضت التصوير من أساسه..، فحاولت أن أطمئنها وأعرض عليها صوراً لأماكن أخرى كانت فى حقيبتى .. وأؤكد لها أن هذا البحث لأغراض أكاديمية وليس موجهاً لأى جهة أخرى..، ولأنها سيدة طيبة سمحت لى فقط بتصوير الحجرة التى نحن بها .. وهو ما يعنى أنها الغرفة الوحيدة بالقصر التى لا تزال على قيد الحياة ..أو بالأصح بها رمق من الحياة .
نهايته !! ..وإلى من يهمه الأمر ..أقدم السطور التالية ..لوصف بعض ما كان هذا القصر عليه قبل خمسين عاماً تقريباً .. قصر زغيب .. هذا القصر الذى يعتبر بمثابة التحفة الفنية والمعمارية والتراثية والتى - ولشديد الأسف - قد تحولت الى مهزلة إنسانية ..فهو يعد من أهم القصور التى قد ورثتها مدينة الإسكندرية عن الفترة الزمنية التى تدعى بالزمن الجميل
أو La Belle Époque
ويسمى بقصر زغيب نسبة إلى الكونت باتريس دى زغيب
Patrice de Zogheb
..والذى قد كتَب فى مذكراته
(Alexandria Memories)
..أن جده الأكبر قد اشترى الأرض التى بنى عليها هذا القصر فى السبعينيات من القرن التاسع عشر ، ويقع القصر بشارع فؤاد (طريق الحرية حالياً) بمدينة الإسـكندرية حيث أنـه كان محاطاً بمساحات واسعة من الحدائق والملاعب التابعة له..واشتهرت هذه الحدائق بالتنوع والثراء فى الفصائل النباتية النادرة والزهور ..وكانت واجهته المبهرة تقع على مرمى البصر من المار بشارع فؤاد ..إلا أنه الآن ومنذ الأربعينيات للقرن العشرين قد اختفى خلف مجموعة من المحاّل التجارية بالشارع ..حيث أصبحت واجهته تطل على ممر ضيق جداً ملئ بالنفايات والأعمال الحرفية ..وكأن هذه المحال كان من المقصود تركها للتضخم والانتشار لتخفى وراءها الكارثة التى حدثت لهذا القصر الأسطورة .
ولشدة جمال هذا القصر معمارياً وتشكيلياً كتب عنه الكونت دى زغيب ليصف الأعمال الفنية التى نفذت به..وقدم هذه المذكرات للمجتمع المهندس مصطفى باشا فهمى (المهندس المسئول عن القصور الملكية عام 1921م) من خلال كتاب تم طبعه عام 1949م..تمنى فيه آنذاك المهندس مصطفى فهمى أن تشترى المحافظة هذا القصر من ملاّكه الجدد لإنقاذه من الإهمال وأعمال التخريب التى قد تحل به وخاصة أن المحال التجارية بدأت وقتها فى إخفاء معالم القصر..كما اقترح من خلال هذا الكتاب أن يحّول القصر إلى متحف للفنون الجميلة ..حيث أنه تتوافر به جميع العوامل الفنية والتراثية التى تعبر عن الفترة الزمنية التى بنى فيها ..، ولكن للأسف تحققت مخاوفه بالفعل واندثرت وسرقت ونهبت الأعمال الفنية والقيم التراثية التى زخر بها فى يوم من الأيام هذا القصر .. والمعمارى الذى صمم القصر يدعى جورون
Gouron
وهو فرنسى الجنسية تتلمذ على يد المعمارى الشهير شارل جارنييه
Charles Garnier
..وتميز القصر بطراز عصر النهضة الفرنسى المستحدث
French Renaissance Neo-
وهو يعتبر مثالاً لقوانين الفنون الكلاسيكية ..وأضاف مصطفى باشا فهمى فى هذا الكتاب أن باختفاء هذا القصر سوف يختفى المكان الأوحد الذى يعتبر مثالاً للجمع بين الفنون البسيطة والنحت والتصوير بالمدينة وعلى هذا المستوى الراقى ..حيث زخر بالتماثيل البرونزية والرخامية لفنانين فرنسيين قد ذاع صيتهم فى أوروبا والمنحوتات الخشبية وأعمال التصوير الجدارى الذى انتشر فى أغلب الحجرات بالقصر والزجاج الملون والأعمدة الرخامية الكورنثية والعقود الإغريقية..إلى جانب تصميم القاعات الواسعة التى جهّزت جدرانها للاستماع الموسيقى ..
وفى نهاية الزيارة لم أستطع أن أعلم إن كان هناك المزيد من الحجرات والقاعات التى ما زالت تحتفظ ببعض الأعمال الفنية (طبعاً المثبتة فى الجدران فقط) ..أم أن العوض على الله ؟..فلقد رافقتنى الست الناظرة إلى البوابة . ولا نستطيع هنا إلا أن نتساءل (ودون أية تعليقات) ..هل يجوز أن تدفن بالحياة مثل هذه الأسطورة الجميلة ثم تتحول الى مدرسة توشكي الإعدادية أو حتى ..الثانوية ؟ وهل تعامل مثل هذه الآثار العزيزة بهذا الأسلوب فى بلدان أخرى؟ ولكن الإجابة على هذا التساؤل يجب أن تكون واضحة (ودون أية تبريرات) ..فكل ما هو مطلوب أن يتحرك ساكنُ وأن ترحموا يا من بيدكم الرحمة عزيزَ فنٍ ذل .
د.زينب نور
مقال تم نشره فى روزاليوسف من عدة سنوات

Comments

Popular posts from this blog

عبقرية الرمز القبطى - بحث فى جذوره المصرية

ما وراء الرمز من أسرار كونية عند المصرى القديم