ما وراء الرمز من أسرار كونية عند المصرى القديم

استكمالاً لزوايا المثلث النظرى السابق تحديده فى المقالات السابقة :( الرمز ، العقيدة والفن ) نستطيع فى هذا الجزء أن نخوض فيما يتعلق بالفن عند المصرى القديم وبناءاً على ما تم ذكره..، فمن خلال جميع الدلالات السابقة والتى قد لا تنتهى .. يتضح لنا مدى أهمية الرمز بالنسبة للعقيدة المصرية القديمة ..حيث نستطيع تلخيصها فى أن الرمز لم يكن فقط عنصر ضمن منظومة سحرية أو فكرية أو عقائدية أو حتى كل هذه المنظومات المرتبطة ببعضها البعض والمتشابكة بصورة اتحادية وليست تنافرية لحد يفوق تصورنا فى هذا المجتمع المعاصر والذى لم يستطع رغم كل محاولاته المتواصلة سبر أغوار هذه الحضارة الجبارة.. ولكن كان الرمز بالنسبة للمصرى القديم بمثابة “العمود الفقرىّ” لرؤيته العقائدية الصوفية والكونية، ولقد تجلت أشكاله وأمثلته فى شتى الفنون المصرية القديمة والتى حاول المصرى القديم من خلالها تسجيل أفكاره وقيمه بل ومقومات حياته الخالدة قبل حياته الفانية …
ولا نستطيع عند تعجبنا لمعرفة هذا المصرى بأسرار الكون إلا أن نصل إلى أقصى مدىً لهذا التعجب.. وذلك عندما نستمع إلى ادلاءات العلماء فى العصر الحديث بأن الكون قد خلق تبعاً لنظامٍ رقمى
digital
وهو النظام الذى يسعى العالم المعاصر لتطبيقه فى شتى أنظمته وبرامجه وأجهزته من أجل الوصول إلى المثالية والكمال
perfection
.. ولكنه هو ذاته النظام الذى سعى المصرى القديم منذ طفولة الإنسانية إلى تطبيقه فى مجالات حياته وبالأخص فنونه المقدسة ( صورة الكون على الأرض ).. من عمارة إلى نحت وتصوير وغيرها ..، فهو باهتمامه بعالم الأرقام ورموزها وعلم الرياضيات وربطه برقمية الكون وفلكه قد وصل إلى أدق الصور والتجسيدات للمقاييس الرياضية الكونية.. وكان فى استخدامه هذا فلسفة ومنطق رمزى بالدرجة الأولى.. وتعددت الأمثلة فى آثاره على أرض الواقع والهدف كان واحداً..، وسوف لن يكون من العجيب أن نتعرف على أمثلة مختلفة للتطابق بين رمزية رقم وآخر عند كل من المصرى القديم والمسيحى الوسيط الذى قطعاً قد تأثر بهذه الفلسفة عن طريق روافد عدة سوف نتعرض لها لاحقاً .. ولكن الأهم من ذلك هو تتبع تأثير هذه الفلسفة الرمزية الرقمية على التشكيل ومفرداته .
إن حديثنا عن الرمز عند المصرى القديم وفلسفته العقائدية يؤكد استباق المصرى القديم فى العديد والعديد من الأفكار والنظريات والتشريعات والطقوس وبالتالى من الرموز وخاصةً التشكيلية منها التى تشير إليهم جميعاً. قد لا يمكننا من خلال هذا المقال فقط أن نخوض فى آثار الرمزية عند المصرى القديم على كافة أنواع الفنون التى ظهرت فى مجتمعه.. ولكن يكفى أن نشيرإلى أنه ما من تفصيليةٍ ما .. فى أى عنصر أو وحدة فنية فى كافة هذه الفنون إلا وكانت تابعة لنظرية تتفق والسياق الرمزى للفكر العقائدى المصرى القديم.وهذه الفلسفة الرمزية بشكل عام هى أبرز ما يمكن أن نلاحظه أيضاً فى الفنون المسيحية مع الاختلاف فى الأساليب.. ولذا فإنه من الممكن فسوف تأصيل هذه الفلسفة الرمزية من خلال تتبع و دراسة الرمز فى العقيدة المسيحية لدى التوقف عند مثل هذه التفصيليات فى الفنون المسيحية ..حيث يمكننا حينها أن نرجع الى الوراء لنوضح هذا التشابه بين كل من العقيدة المسيحية والمصرية القديمة.ونظراً لكون فن التصوير لدى المصرى القديم هو أقرب أنواع الفـنون - من حيث الشكل - إلى فن الزجاج الملون بالكنائس المسيحية وخاصةً الشرقية ينبغى إلقاء بعض الضوء على خواص هذا الفن ، فمنذ بدايات فن الرسم والتصوير عند المصريين القدماء كانت الكلمة قرينة الصورة.. حيث مثلت الأخيرة أولى خطوات الكتابة.. ولذلك فإنه من أجل فهم جيد للأفكار المصرية القديمة ينبغى دراسة الكلمة والصورة بشكل متوازٍ.
وعندما تبلورت الكتابة الهيروغليفية أصبحت ذات دورٍ جوهرى فى تصميم أعمال التصوير الجدارى ..فبالرغم من أن دورها كان بالدرجة الأولى لتسجيل نصوص مقدسة أو سحرية – بالمفهوم السابق توضيحه - مرتبطة بالموضوعات المصورة ..إلا أنها من الناحية الجمالية قد لعبت دوراً اكثر أهمية بالنسبة لعالَم الفن والفنانين على مر العصور.. بل أنها شكلت إلهاماً مستمراً ومتدفقاً الى يومنا هذا للاستفادة من مثل هذا الدمج بين الصورة والكلمة فى الأعمال الفنية..، فالكتابة الهيروغليفية فى حد ذاتها هى كتابة حقاً ولكنها بالنسبة للمصرى القديم كانت مقدسة حيث مثلت الكلمة الإلهية..وإذا كانت مفرداتها قد حملت أسراراً ورموزاً خفية لازال العالم الحديث يبحث عن كنهها إلا أنها من ناحية أخرى قد سجلت وعبرت عن أحداث وأفكار هؤلاء المصريين..فكانت هذه الكتابة تعتمد بشكل أساسى على الصورة أو الشكل المرسوم أو بمعنى أدق الرمز.. ومن أهم أنواع هذه الرموز أو العلامات :” ( أيديوجرامات )
ideogarams
: أى صور أو رموز تمثل شيئاً أو فكرة لا كلمة خاصة بهذا الشكل أو تلك الفكرة ) ،أو ( لوجوجرامات )
logograms
(1): أى حروف أو رموز أو علامات تمثل كلمة كاملة وتقرأ كتصاوير مرئية لأشياء محددة.” (2)، وكمثال على النوع الأول
يكون التعبير عن الشمس أو النهار بواسطة رسم دائرة تتوسطها نقطة ولكن إذا ما أضيفت الى هذه الدائرة ثلاث خطوط خارجية لعبرت عن الضوء، أما النوع الثانى فنجد أنه لكتابة اسم الملك (نعرمر)(3) مثلاً ..رسمت علامتان بجوار بعضهما البعض..الأولى منهما على شكل السمكة تعبيراً عن مقطع (نعر) ..ثم الإزميل تعبيراً عن مقطع (مَر)، ولقد سعى المصريون فى اختيارهم لهذه الرموز الى تحقيق الوضوح والبساطة من حيث اختيارهم للعناصر المرسـومة وأيضاً من حيث الوضع الذى يمكننا رؤيتها منه.وبالإضافة إلى ذلك تحوى ” الكتابة المصرية مجموعة كاملة من العلامات ذات المعانى الرمزية الشاملة التى تستخدم على أنها طلاسم (أو تعاويذ سحرية) قوية،ومن بين هذه العلامات عين حورس الجريحة، وعلامة الحياة”عنخ” و”الجعل” (أى الجعران) والعمود (جد) “(4) كما تأتى سمات أخرى مميزة للفن المصرى القديم وهى التى قد اشتهر بها ..مثل الطريقة المعهودة فى تصوير الأشخاص (الوجه فى وضع جانبى فى حين تأتى العين فى وضع مواجه ويليها الصدر بالكتفين ..ثم السيقان فى وضع جانبى مرة أخرى..واحدة منهما عادةً متقدمة عن الأخرى ربما دلالةً على الانتقال بواسطة هذه الخطوة من عالم إلى آخر) ..، وهذه الطريقة برمتها يعتقد العلماء أن المصرى القديم تصور أنها تسهل من عملية عودة روح الشخص الميت الى جسده أو الرسم الخاص به ..وتعتقد الكاتبة أن هذا الأسلوب فى رسم الأشخاص بشكل محدد وبالرغم من أنه يبدو غير مهتم بقواعد المنظور والبعد الثالث أنه يشبه النحت أو بتعبير أدق يرمز إلى وظيفة النحت المجسم الذى يجسد كل أو أغلب الأسطح الجسدية للإنسان.. وبالتالى تكون عملية دخول الروح لهذا الجسد بالفعل أسهل وأدق، وبشكل عام تميز التصوير المصرى القديم بعدم اهتمامه بالمنظور أو البعد الثالث، وتصميمه العام الذى يأتى فى خطوط أفقية (وإن كان هذا الأسلوب قد عرف عند حضارات أخرى إلا أن التصميم المصرى قد تميز بتقسيم المساحة إلى ثلاث مستويات أساسية يتم توزيع العناصر بها وهى الأرض والمنطقة الوسطى والسماء)..، ومن سمات التصميم المصرى القديم أيضاً كبر حجم الشخصية الأكثر أهمية فى الموضوعات المصورة..والاهتمام بالخطوط الخارجية ..ومن أميز ألوان المصرى القديم الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق والأبيض والأسود. والألوان عند المصرى القديم لا تعبر فقط عن حقيقة الأشياء ولكن “بوسع اللـون أن يعبر عن شىء ما وعن الطابع الجوهرى لهذا الشيىء وتدل اللغة المصرية ذاتها على هذه الطاقة الرمزية، فالكلمة التى تعنى لون يمكن أن تستخدم مرادفاً لكلمة الجوهر أو الطابع “(5) .
ولقد أثبتت الكثير من الأبحاث وجود بعد رمزى وعقائدى فى اختيار والتمسك بمثل هذه السمات طيلة التاريخ المصرى القديم بشكل عام ،”ولقد انطبقت (ماعت) على الموسيقى والشعر والفن وكان انسجام النغمات والصوت واللحن والمقياس المناسب فى العمارة، ترياقاً لكل ألوان الغلو،فقد ارتبطت المكاييل والموازين والمحاسبة ارتباطاً وثيقاً “بماعت “(6) ..، فالحكم الدينى هنا على الإبداع والاحتفاظ بهذه السمات يذكرنا بالحكم الدينى فى الكنائس بشـكل عام وخاصةً الكنيسـة الشرقية.وعلى كلٍ فإن هذه الرمزية البديعة والقوية وصلت الى مستوى الفلسفة التى لم يكن فيها الرمز أداة وحسب ..بل كان بدناً قد بنيت على جوانبه حضارة بأكملها، وهذه الحضارة ذات الطابع الفلسفى الصوفى هى ما جعلت المصريين القدماء يبنون بيوتهم من مواد لا تتسم بالصلابة بينما بنيت بيوت الإله بالأحجار الصلدة لتتسم والخلود الإلهى..وهذه الحضارة ذاتها هى ما أجبرت الشعوب تلقائياً على الأخذ منها بالرغم من اختلافاتهم العرقية والتراثية والعقائدية ..فأخذوا عنها ما يستطيعون أن يدخلوه ضمن أفكارهم وعاداتهم بطريقتهم الخاصة مما جعل هذه الاستعارات فى معظم الأحيان ناقصة وضعيفة وذات طابع مادى وثنى صريح.
أما فيما يتعلق بالديانات السماوية التالية مثل اليهودية والمسيحية فسوف نجـد وخاصـةً فى تلك الأخيرة العديد من مظاهر التأثر بهذه الرؤية الرمزية ..وهى على العكس من الحضارات ذات العقائد الوثنية قد استفادت من هذا الإرث العقائدي العظيم والبالغ فى الصوفية والذى يظهر فى المحاولة الراقية للإنسان المصرى القديم فى التقرب من الإله..وفى توجيه كل شبر على أرضه نحو التوافق مع النسق الكونى الذى أبدعه الخالق .. وهو الأمر الذى جعل هذا الإنسان يرمز لأرضه .. أرض مصر بصفة ..” صفحـة السماء ” . ______________________________
الهوامش
(1)أحياناً أخرى تطلق عليها فونو جرامات
phono grams
لأنها تستخدم للدلالة على الأصوات.
(2) - إيريك هورنونج - فكرة فى صورة - الألف كتاب الثانى – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 2002 - ص
(3) وهو الملك مينا موحد القطرين المصريين وموحد العقائد السائدة آنذاك وأول ملوك الأسرة الأولى فى تقويم المتحف البريطانى،وكانت الصلاية التى تحمل اسمه بهذا الأسلوب فى الكتابة هى أولى وأقدم النماذج التى عثر عليها كتوثيق للتاريخ المصرى القديم..وهى أيضاً تمثل النموذج الذى مهد لسمات الفن المصرى القديم فيما بعد.
(4) - المرجع السابق / إيريك هورنونج - ص25 .
(5) – المرجع السابق / إيريك هورنونج - ص21
(6) - المرجع السابق / إيريك هورنونج - ص113

Comments

Popular posts from this blog

عبقرية الرمز القبطى - بحث فى جذوره المصرية

ارحموا عزيزَ فنٍ ذَل