الكنيسة القبطية ..انتصار للشخصية المصرية 2
أهم ما تميز به الصراع الذى تم تناوله فى المقال السابق.. أن كنيسة الإسكندرية كانت أول من وجّهت الخلافات الدينية فى العالم المسيحي بأسره وكان ذلك بظهور آراء فلسفية أو لاهوتية طرحها الأسقف (أريوس) وهو ليبى الأصل عاش بالإسكندرية وكان يقول "إن الأب وحده الله، والإبن مخلوق مصنوع وقد كان الآب إذ لم يكن الإبن"..وهو ما يخالف الإعتقاد المسيحى بالمساواة بين الآب والإبن.. فهوجم (أريوس) واعتبر من الهراطقة من قبل كنيسته والكنائس الأخرى.. وبالرغم من اعتباره مهرطقاً..إلا أن آراءه قد أثرت على من بعده من الغربيين..ونستطيع أن نجد لها صداً فى كثير من الآراء قبلها وقبل المسيحية فى الفكر المصرى القديم¨ وأيضاً بعدها فى كل من الكنيستين البيزنطية والكاثوليكية كما سيلى الحديث عنه فيما بعد.
فكنيسة الإسكندرية بعد أن تخلصت من (أريوس) دخلت مرة أخرى فى صراع مع الكنيستين الغربيتين بكامل سلطتهما وقوتهما وهما كنيستى روما وبيزنطة بالإضافة إلى كنيستى أورشليم وإنطاكية§..(التى تقع فيما بين تركيا وسوريا..والتى أطلق على تابعيها الروم ولكنها لا تتضمن الشوام الذين انضموا الى المصريين فى معتقدهم ولقبوا بالسريان) وكان أهم وآخر هذه الخلافات حول طبيعة السيد المسيح..حيث رأت الكنائس الغربية أن للمسيح طبيعة إنسانية مستقلة ومنفصلة وطبيعة أخرى إلهية مستقلة ومنفصلة ..فكأن المسيح بشرُ وإلهُ معاً..، كما رأت الكنيسة الرومانية أن الروح القدس منبثق عن الآب والإبن ..فى حين رأت كنيسة الإسكندرية أن للسيد المسيح مشيئة واحدة كما أن الطبيعة البشرية والإلهية صارتا طبيعة واحدة بعد الاتحاد للكلمة المتجسد بدون اختلاط أو امتزاج أو استحالة وهذا الإتحاد هو قبل الولادة أى أن السيدة مريم العذراء هى أم الإنسان والإله معاً..كما رأت أن الروح القدس منبثق من الآب وحده، وعلى سبيل المثال وبناءاً على الرؤية القائلة بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح عند الأقباط نجد أنه غالباً ما كان وجه السيد المسيح الطفل المرسوم أو المنحوت على ساقى أمه العذراء دائماً ما كان ذى وجهاً ناضجاً لا يتصف بالطفولة ..أى أنه مكتمل الإلوهية.. وذلك بعكس الكنيسة الكاثوليكية على سبيل المثال التى تحرص على إظهار معالم الطفولة البريئة على وجه السيد المسيح الطفل ..، وتلك الرؤية القبطية قد دافع عنها آباء كنيسة الإسكندرية ولاسيما الأنبا القديس (أثانسيوس) (من المرجح أنه مصرى) والذى لقى فى سبيل ذلك الكثير من الاضطهاد.
ولقد حُسم هذا الصراع بعد العديد من المراحل والجولات فى آخر المجامع الدينية بهذا الشأن وهو مجمع خلقيدونيا (بآسيا الصغرى) سنة 451م أى فى منتصف القرن الخامس الميلادى.. تقريباً، حيث استقلت كنيسة الإسكندرية واستمرت فى اتباع ما اعتقدت أنه هو أصل العقيدة المسيحية وهو ما يعرف بالمذهب المستقيم (الأرثوذكس)٭§ والذى سمى بعد ذلك بمذهب اليعاقبة – نسبةً إلى الداعية يعقوب البرادعى السريانى- فى حين اتبعت الكنائس الأخرى (بيزنطة وروما وأورشليم ومعهم إنطاكية) المذهب الملكانى (وهو لفظ سريانى) والذى أطلق عليه بعد ذلك عند كنيسة روما - الكنيسة الجامعة أو الكونية - مذهب (الكاثوليك) التابع للفاتيكان
Vatican..
وكان هذا الحدث بمثابة بداية فترة جديدة من اضطهادات غربية أخرى ضد المسيحيين المصريين بشكل عام.
ولكن الأهم من هذا أن ذلك الحدث يعد أهم وأول الأحداث التى غيرت فى مسار الديانة المسيحية فى العالم أجمع، وبناءً عليه ترتبت العديد من المسائل الأخرى..لعل أهمها - فيما يخص هذا البحث - هو اعتبار الكنيسة المصرية أهم الكنائس الشرقية نظراً لتفردها وسبقها واصرارها على هذا الاستقلال الفكرى واللاهوتى..فالكنيسة البيزنطية يعتبرها العالم شرقية بدعوى المقارنة بينها والكنيسة الغربية بروما ..كما أنها على مستوى السلطة الدينية كانت دائماً فى المرتبة الثانية بعد الفاتيكان ..إلا أن الكنيسة البيزنطية فى حقيقة الأمر بالنسبة لنا نحن الشرقيين ما هى إلا كنيسة غربية ..كما أن تأسيسها لم يحدث سوى فى القرن الرابع الميلادى بعد اعتراف الإمبراطور (قنسطنطين) بالعقيدة المسيحية.. بينما كانت الكنيسة القبطية قد أرست قواعدها فى القرن الأول الميلادى..فهذا سبق واضح للكنيسة المصرية.
وعلى كل فإن جميع هذه الخلافات التى ظهرت بين الكنائس قبل هذا المجمع الأخير قد أسفرت.. أولاً: عن ازدياد النشاط الفلسفى المصاحب للعقيدة المسيحية فى الشرق فى ذلك العصـر وهو النشاط اللازم من أجل الوصول إلى الإجابات اللاهوتية المختلفة.. مع العلم بأن هذا النشاط الفلسفى المسيحى فى مدينة الإسكندرية أو فى مصر بشكل عام قد بدأ فى الضمور مرة أخرى بعد الإنشقاق وبعد استتباب الأمور وأصبح أكثرضموراً بعد دخول الإسلام إلى مصر..لأسباب سوف نتطرق إليها فيما بعد، ثـم ثانياً: عن اختلاف الأساليب الفنية المتبعة من الكنائس الغربية من ناحية وكنيسة الإسكندرية من ناحية أخرى، فمن الصحيح أن لكل كنيسة فى العالم تاريخ وتراث وبيئة مختلفة عن باقى الكنائس مما يستتبع أختلاف المؤثرات على الأساليب الفنية المتبعة بكل كنيسة..إلا أن هذا الانشقاق الفلسفي يعد بمثابة الشعاع الأول الذى حدد وأبرز هذه الاختلافات إن لم يكن قد حرَّض الكنائس الأخرى فيما بعد على البحث عن الاستقلالية والتميز عن الغير ..بل والقومية ولاسيما لدى المسيحيين المصريين..وذلك بالطبع إلى جانب حسابات المصالح والسياسات العليا لكل كنيسة فى دولتها..حيث كانت المنافسة على السلطة العالمية بين الكنائس قد اشتعلت مع مرور القرون..، وكانت لكل كنيسة الرغبة والتخطيط فى السيطرة الفكرية على العالم من حولها.
ولقد ظهرت بعد هذا الإنقسام كنائس أرثوذكسية تتوافق مع الكنيسة القبطية فى آرائها اللاهوتية من أهمها كنيسة الأحباش والسريان والكلدان والأرمن..، أما كنيسة الإسكندرية فلا زالت تحمل اسمها إلى يومنا هذا إشارةً إلى كنيسة الأقباط الأرثوذكس..بالرغم من انتقال كرسى البطريرك من الإسكندرية إلى القاهرة فى منتصف القرن الحادى عشر الميلادى.
--------------------------
الهوامش
¨ - أنظر رأى (ول ديورانت) فى ذلك – موسوعة قصة الحضارة – المجلد11 – قيصر والمسيح - مكتبة الأسرة - 2001 – ص 392، حيث يرى أن فى آراء (اريوس) تأثراً بفيلون وأفلوطينس وأوريجين..وجميعهم قد عاشوا بمصر لفترات طويلة وسوف يأتى الحديث عنهم فيما بعد..، أما عن أثر مثل هذه الآراء على الكنيستين – روما وبيزنطة – ففى المرجع السابق – الجزء12 – ص 19/23 حيث يتحدث (ول) عن تأثر (قنسطنطين) نفسه بآراء (آريوس) .
§ أ.د. محمد محمد مرسى الشيخ - مقال (الإسكندرية والمسيحية) - كتاب تاريخ الإسكندرية عبر العصور - محافظة الإسكندرية - 1999 - ص84 .
٭§ كانت الأرثوذكسية صفة لجميع المسيحيين فى كل العالم قبل هذا المجمع..وكانوا جميعاً يرون ما تراه كنيسة الإسكندرية صحيحاً وذلك كما جاء فى مجمع إفسس سنة 431م..إلا أنه بمجمع خلقيدونيا..تكون كنيسة الاسكندرية قد أصرت على معتقدها الذى كان سائداً فيما بين مسيحيى العالم..ولذا فمن غير اللائق استخدام لفظ (انشقاق) حيث أن هذا يعنى انها هى التى أتت بالجديد..وإنما هى ظلت تقاوم ما ظهر واستجد من آراء لاهوتية واعتبرتها دروباً من الهرطقة..، وبالرغم من أن كنيسة مصر لم تكن أول من استقلت عن الكنائس الغربية.. فقد سبقتها إلى ذلك استقلال الكنيسة المسيحية الفارسية ذات التأثير النسطورى عام 422م(ول ديورانت – قصة الحضارة – قيصر والمسيح - مكتبة الأسرة - 2001 – الجزء 12 ص 281) ..إلا أن الإختلاف فى الأهمية بين الكنيستين القبطية والفارسية يبدو واضحاً..فالكنيسة القبطية إن دل بقاؤها القوى إلى يومنا هذا ..فإن ذلك يدل على ثقلها الدينى والفكرى والسياسى أيضاً.
Comments