هل كان الرمز فى مصر القديمة هو اساس الكتابات الاولى للانسانية؟!!

هل كان الرمز فى مصر القديمة هو اساس الكتابات الاولى للانسانية؟!! ما دامت مصر هى فجر الضمير البشري .. فإنه من الطبيعى أن يكون لديها الكثير إن لم يكن جميع التفسيرات والأصول الأولى للرموز الفكرية والتشكيلية..….. فالرمز يمثل إحدى زوايا المثلث النظرى الهام ( الرمز ، العقيدة والفن ).. وهو المثلث الذى يدور حوله هذا المقال وغيره لاحقاً ، فلقد قـيل عن الرمز أنه لغة إيحاء.. وهو كما وصفه فيليب سيرنج فى كتابه ( الرموز فى الفن - الأديان – الحياة ) : هو شئ “ما يقف بديلاً عن شئٍ آخر أو يحل محله أو يمثله بحيث تكون العلاقة بين الاثنين هى علاقة الخاص بالعام أو المحسوس العيـانى بالمجرد وذلك على اعتبـار الرمز شيئاً له وجود “حقيقى” مشخص إلا أنه يرمز إلى فكرة أو معنى محدد”..، كما أن الرمز يستطيع الفرد من خلاله – كما تستطرد دكتورة أميرة مطر فى كتابها ( فلسفة الجمال ) - ” استخلاص مفاهيم قد يصعب شرحها فهو فى النهاية أحد وسائل الفهم والتعبير معا ً، كما وصفت الرمزية بأنها فن التفكير من خلال الصور والأشياء المستخدمة كرموز مادية أو معنوية أو حتى أحداثاً تاريخية مثل ذبيحة إسحاق وأضحيته والتى أصبحت رمزاً للتضحية والفداء والخلاص الإلهي” ، والرمز أيضاً شئ مثلما أشار إليه هيربرت ريد ” يهتدي إليه بعد اتفاق ، وتقبله جميع الأطراف باعتباره يحقق مقصداً معيناً بطريقة صحيحة “. إلا أن هذا الاتفاق قد يختلف من مجموعة بشرية الى أخرى حيث يستمد الرمز قيمته ودلالته من المجتمع الذى يؤمن به أو يعرفه .. فالأسود – على سبيل المثال - درجة لونية ترمز الى الحداد فى بعض المجتمعات بينما لا تكون كذلك لمجتمعات أخرى .. كما أن القيمة يكـون تقديرها تبعاً لعوامل نفسية تختلف من إنسان الى آخر .. ومثالاً على ذلك نجد أن قيمة الصليب – على سبيل المثال أيضاً- بالنسبة للمجتمعات المسيحية ليست كقيمته لدى معتنقى الديانات الأخرى . ويقال أن ” عالم الإنسان هو شبكة من الرموز بل أمكن لكثير من الفلاسفة المعاصرين أن يعرفوا الإنسان بأنه الحيوان القادر على خلق الرموز “..، وعن علاقة الإنسان بالرمز نجد أن الإنسان منذ بداياته وبدائيته كان دائماً على علاقة وطيدة مع الرمز.. بدأت هذه العلاقة منذ خطَّ الإنسان بما أوتى من أدوات بسيطة وطبيعية على أسطح الكهوف والصخور ما قد استشعر فى قواه الغيبية مأمناً سحرياً له ولأسرته أو مجتمعه.. وهو ما أطلق عليه العالم فيما بعد الرمز أو الطوطم totem..
حسب الرؤية التفسيرية له
والحقيقة أن علاقة الإنسان بالرمزعند أول ترجمة لها تجسدت فى شئٍ مرئيٍ أى فى مظاهر تشكيلية فظهرت الرموز فى صورة تشكيلية لخطوط مبسطة أو زخرفية بدت أول الأمر للمجتمع الحديث وكأنها حليات استخدمها الإنسان البدائى على أسطح أدواته المختلفة وأرجعوا سبب هذا الاستخدام الى خوف الإنسان بطبيعته الفطرية من الفراغ وميله الدائم لشغل هذا الفراغ أياً كانت الأسطح التى تمثله ..حتى وإن كانت الأجسام البشرية ذاتها.. وهو إرجاع صائب إلا أنه مع استمرار الدراسات وتطورها اتضح فيما بعد - وبالإضافة الى هذا الإرجاع - أن هذه الأشكال الزخرفية تمثل رموزاً سحرية أو طوطمية كانت ذات أهمية جوهرية فى حياة ذلك الإنسان. ومن الصحيح أن الرمز ليس قاصراً على عالم الشكل فقط ولكن هذا العالم ذاته هو من أقرب العوالم الى نفس الإنسان وكان له فى كثير من الأحيان آثاراً بصرية قوية مما لا تستطيع الكلمات المقروءة والمسموعة أن تحدثها على نفس المتلقى ..بالإضافة إلى أن الصورة التشكيلية استطاعت أن تحفظ لنا العديد من القيم التراثية من أزمنة لم يكن بها وسائل أخرى لحفظ مثل هذه القيم.. وكان الرمز المرسوم أو المحفور بالنسبة للإنسان البدائى يلعب دورين فى آن واحد ، حيث يستطيع الرمز الاقتراب من العالم الغيبى والقوى الخفية التى عرفت لاحقاً بالآلهة.. ولقد ذكر فيليب سيرنج فى كتابه سالف الإشارة إليه أن ” العلاقة بين الأشياء المقدسة هى علاقة رمزية وليست علاقة فطرية أو طبيعية ، وأنه بدون الرموز تكون المشاعر الدينية عرضة للضعف والزوال ..” وبذلك يكون الرمز بمثابة الوسيط بين الإنسان وبين هذه العوالم الخفية التى لا يجرؤ على الاقتراب منها دون هذا الوسيط.. ، أما الدور الثانى للرمز وخاصةً التشكيلى .. فهو قدرته على خلق وسيلة للاتصال البصرى بين الإنسان وزميله الإنسان عبر الزمان والمكان.وفى عصرنا الحديث هذا.. نعلم مدى أهمية الصورة وقدرتها على تشكيل لغة عالمية من الممكن أن يتعارف عليها العالم أجمع..، وإنسان الحضارات الأولى والقديمة بمنطقة الشرق أول من أدرك أهمية تنظيم دور الأشكال الرمزية فى التعبير عما يجول بعقله من أفكار وما يعترى وجدانه من مشاعر .. ولم يكن ذلك من باب التعبير الفنى الخالص ولكن كان بهدف رئيسى وحتمى وهو الاعتماد الأساسى والجوهرى على استخدام الرمز من خلال لغة تشكيلية فى تسجيل الفكر والعقيدة والمشاعر والأحداث التاريخية الهامة وكل ما يتمنى الإنسان أن يخلده لمن بعده من أجيال.. لم يعد يخف على أحد أن الحضارات الشرقية القديمة كانت أولى المجتمعات التى استطاع فيها الإنسان التوصل الى ذلك الاختراع العبقرى ألا وهو الكتابة ..، ولايزال بعضُ من العلماء والباحثين يتناقضون فيما بينهم حول تحديد الحضارة الأولى على كوكب الأرض التى حدث بها هذا الإنجاز العظيم ..فتارة تكون حضارة مدينة (الوركاء)
URUK
إحدى أقدم الحضارات السومرية فى بلاد ما بين النهرين
أو بلاد النهرين فى تسمية أخرى
Mesopotomia
.. وأحياناً أخرى تكون حضارة (جرزة) بالوجه البحرى وهى إحدى أقدم المجتمعات العمرانية بالحضارة المصرية القديمة
Ancient Egypt. ففى الحضارتين يُرجع العلماء تاريخ اختراع الكتابة فيما بين 3000 إلى3300 سنة ق.م (وهو التقويم القصير بالنسبة للحضارة المصرية القديمة حيث أنه طبقاً لقوائم الكاهن المصرى “مانيتون” ..يرجع هذا التاريخ إلـى حوالـى 5619 ق.م ) ولقد أثبتت الاكتشافات الحديثة يوماً بعد يوم دقة القوائم التى وضعها هذا الكاهن المصرى العظيم فى 280ق.م أكثر من تلك التى وضعها المتحف البريطانى فى العصر الحديث .. فهذا الكاهن قد أشار إلى وجود أسرة ملكية من ثمان ملوك قد أنكرها المتحف البريطانى قبل الأسرتين الأولتين المعروفتين .. وبالفعل تم اكتشاف مقبرة لأول ملكة فى تاريخ مصر وهى (ميريت نيت) فى 5619 ق.م.. فأطلق علي هذه الأسر صفر ثم (-1) وهكذا..(د/وسيم السيسى – مقال مصريات – مجلة روز اليوسف – العدد {3756} ، وبذلك يتأكد لنا أن التاريخ المكتوب للحضارة المصرية القديمة يعود لهذا الزمن السحيق مما يدعم استباق الحضارة المصرية القديمة على حضارات بلاد النهرين بشكل قاطع ..أو هكذا تشير الأرقام، ومن ثم ترى أكثر الأبحاث حداثة أن تاريخ السعى الحضارى المصرى القديم يعود الى عام 10500 ق.م تقريباً..وهو التاريخ الذى يحتمل أن يكون أوزير المصرى أو أوزوريس باليونانية قد عاش فى أثنائه .. وهذا البعد التاريخى يتوافق مع الإعجاز الموجود بكافة إنجازات المصريين القدماء .. حيث أنه ليس من المنطقى أن يتوصلوا الى مثل هذه الإعجازات العلمية الدقيقة - ومنها على سبيل المثال الهرم أو المرصد الأكبر - فى خلال بضعة آلاف من السنين فقط… مما يرجح أن للحضارة المصرية الأسبقية فى اختراع الكتابة. ولقد كانت أساليب الكتابة فى الحضارتين المصرية والسومرية أقرب إلى الرسوم منه الى حروف أو أبجديات.. حيث لعب الرمز دوراً أساسياً فى بلورة هذه الكتابات، ولشدة تقارب التاريـخ - كما يذكر المتحف البريطانى - وأيضــاً الفكرة فى طرق الكتابة وتشابه بعض الأشكال المستخدمة اعتقد الكثير من العلماء أن ثمة اتصال قوى كان بين كل من الحضارتين ، كما يبدو فى الصورة التالية :
حيوانات خرافية ذات رقاب طويلة متعانقة..الأولى من حضارة (الوركاء) السومرية والثانية من لوحة الملك المصرى (نعرمر) - الأسرة الأولى
وبالرغم من أن الرمز كانت له مثل هذه الأهمية فى الكتابات فى هاتين الحضارتين ومن ثم كان له أبلغ الأثر على فنونهما..إلا أن استخدام الرمز لم يكن حكراً عليهما من حيث عنصر المكان..فارتباط الرمز بالإنسان كما سبق وأشرنا كان منذ بدايته ..وكان هناك العديد من الحضارات الأخرى التى ولعت باستخدام الرموز فى طقوسها وفنونها وحياتها مثل الحضارة الفارسية .. والحضارات التى اتخذت الهندوسية والبوذية عقائد لها بقارة آسيا .. والحضارة (الكلتية ) بأوروبا وحضارتى ( المايا ) و( الأزتك ) بأمريكا الجنوبية .. وغير كل هذه الحضارات بل وحتى الآن فى المجتمعات البدائية المعاصرة.وسواء كانت البداية الأولى للكتابة فى الحضارة المصرية القديمة أو السومرية - وهو ما لم يعد معقولاً - فسوف تكون الحضارة المصرية هى المرجع الرئيسى لتاريخ استخدام الرموز وما لها من دلالات فلسفية عقائدية فى هذا البحث..وذلك لأنه كما سبق وأشرنا فى المقدمة أنه بحكم الجغرافيا والجذور البيئية والتاريخية للإنسان المصرى تعتبر الحضارة المصرية القديمة هى الامتداد الطبيعى فى عمق الزمان والمكان لفلسفة ورؤية الكنيسة الشرقية للدين ( مع اختلاف جوهر العقيدة ).. مع العلم أن الكنيسة المصريــة هــى أولــى الكنائس الهامة التى انفصلت عن الكنائس العالمية الكبرى بالقرون المسيحية الأولى.. فهى بذلك تستحق أن يدعى أبناؤها أنها أم الكنائس الشرقية جميعاً.. وذلك من حيث الثقل التاريخى والإستراتيجى وليس من حيث أعداد المسيحيين التابعين لها ..فهى أم الكنائس الشرقية ، حتى وإن اختلفت مع هذه الكنائس الشرقية فى بعض تفسيراتها اللاهوتية .. وربما كانت هذه الإختلافات هى التى أهلتها إلى الزعامة.. كما أن الفكر الفلسفى المصرى القديم الموجود فى فنون عصره والمتوارث عبر فصول التاريخ بالفعل هو أقرب ما يكون من الفكر الفلسفى المسيحى الموجود فى بعض فنونه أيضاً مع اختلاف الصياغات التشكيلية ، بالإضافة الى أن هذه الحضارة المصرية العظيمة كانت بمثابة الحضارة الأم والرائدة التى انتقلت منها العديد من الخبرات الإنسانية والأفكار والعادات لشتى الحضارات القديمة المعاصرة واللاحقة بها.. بل ويذهب حتى بعض من العلماء إلى الإعتقاد فى أن المصرى القديم كان أول من وصل إلى القارة الأمريكية وأرسى بها من الأفكار وأركان العقيدة والفنون ما ساعد على إقامة حضارة المايا ومن بعدها الأزتك ..ولنكن موضوعيين فإن المصريين لابد وأنهم أيضاً قد تأثروا بعوامل ثقافية خارجية.. فليس من الصحيح كما يدعى البعض أن المجتمع المصرى القديم كان منغلقاً أو منعزلاً بفضل حدوده البحرية أو الصحراوية ..، ويتأكد مثل هذا الإستنتاج فى كتابات بعض العلماء المنصفين ..مثل (مانفرد لوركر) فى كتابه (معجم المعبودات والرموز فى مصر القديمة) فلقد استطاع المصرى القديم منذ نشأة مجتمعاته الأولى أن يخترق هذه الحدود ليعرف ما وراءها معرفة واعية تؤمن له حياته ومجتمعه ومؤسسات دولته.. أو ليستفيد منها عن طريق التبادل التجارى وأيضاً الثقافى.. إلا أن هذا التبادل الثقافى لم يكن أبدا مؤثراً لدرجة ظهوره جلياً فى فنون وحياة المصرى القديم وإنما كان دائماً يدخل ضمن السمات المصرية ويتم تطويعه وتمصيره..، كما لا يزال العلم الحديث الى يومنا هذا يكشف عن المزيد من أسرار الحضارة المصرية القديمة التى تشير إلى العديد من المقارنات التى ينبغى علينا نحن المصريين أن نقيمها بين مظاهر ونظريات قد عرفها كل من المجتمع المصرى القديم فى زمنه الغابر والمجتمع الغربى فى زمننا الحاضر، وهو ما يؤكد أن العالم الحديث مازال ينهل من اكتشافات وعلوم وحكمة المصريين القدماء .. وإقامة مثل هذه المقارنات لا توجد بها أى نوع من الشوفونية فتلك حقوق يجب أن تنسب الى أصحابها ولو بعد حين .. وهذا الفكر المصرى القديم والعظيم هو الذي جعل أشهر العلماء والمؤرخين الأجانب أنفسهم وخاصةً المنصفين منهم .. جعلهم يطلقـون على الحضارة المصرية القديمة أسماء وصفات فى مؤلفاتهم تؤكد هذا المعنى مثل (ماسبيرو) الذى سماها ”فجر الحضارة ” و( جيمس هنرى برستيد ) الأمريكى اليهودى الذى سماها ” فجر الضمير “. د.زينب نور مدرس بكلية الفنون الجميلة جامعة حلوان بالزمالك nourzeinab@yahoo.com http://zeinabnour.artistportfolio.net/

Comments

Popular posts from this blog

عبقرية الرمز القبطى - بحث فى جذوره المصرية

ارحموا عزيزَ فنٍ ذَل

الرمز فى الاسطورة المصرية القديمة1