فى ذكرى رحيله..رجُل واحد بس فيكى يا مصر إسمه "إيزاك فانوس"؟ !!

كدت أحلف على المصحف لموظفة دليل التليفونات أن الإسم الذى أقوله لها هو اسمُ مضبوط..، فبعد ستة آلاف (إيه)!؟ ..سألتنى : هو ده اسم شركة ولاّ إيه؟، فقلت فى نفسى (يادى النيلة السودة!!).. وقلت لها : "لأ ..ده اسم واحد راجل... لو سمحت إكتبيه زى ما هو كده وشوفيلى النتيجة إيه"!!، وبعد ثوان معدودة : قالت الموظفة:.. " أهوُ!! .. فيه واحد بس اسمه إيزاك فانوس.
وكانت ....
فطوال سنوات حاولت مراراً وتكراراً أن أصل إلى هذا الرجل الذى قد شاهدت له العديد من الأعمال الفنية بكنائس الإخوة الأقباط بمدينة الإسكندرية..ولكن دائماً ما كنت أخرج صفر اليدين..، إلى أن انتقلت للحياة فى القاهرة.. وتابعت فى أبحاثى الكثير من الأعمال التى تنتمى إلى هذا المجال.. فقررت أن أجده . وبالرغم من شهرة إيزاك فانوس بين رجال الدين المسيحى..، إلا أن وسيلة الإتصال به وخاصةً فى سنواته الأخيرة بَدت وكأنها غير واقعية..، ولم أكن أتصور أن تجربة دليل التليفونات تلك سوف تنجح ..ولكنها نجحت بالفعل. وبعد أن أخذت رقم التليفون من الموظفة التى صفعت فى وجهى الخط.. طلبت فوراً الرقم.. ليرد علىّ صوت رخيم (كُبّارة).. فاضطربت قليلاً عندما قال لى أنه هو (إيزاك فانوس) ..وأخذت أشرح له باختصار أننى أود أن أقابله لآخذ رأيه فى موضوع رسالة الدكتوراه الخاص بى.. وكيف أن مقابلته تشكل أهمية كبيرة لى وللبحث..، فما كان منه – وقبل أن استرسل فى الشرح - إلا كل الترحيب وتحديد الموعد ..أما المكان فكان بمرسم كاتدرائية الأقباط الأرثوذكس بالعباسية والذى لم أكن - وبكل أسف - أعلم عنه شيئاً. فى صباح أحد أيام 2002 الصيفية ..تهندمت وذهبت لمقابلة الرجل.. وكنت أحمل فى أوراقى العديد من الأسئلة سواء فى مجال الفن أو فى مجال العقيدة المسيحية وعلم اللاهوت.. وذلك لمدى ارتباط الإثنان بموضوع البحث..، وبعد أن جلست إلى جواره وبدأت فى شرح الموضوع..، لم يكن منه سوى أن يتحول إلى ما يشبه (الطاءة) التى فتحت لتوها.. بغزير من العلم والمعرفة والفن والفلسفة والعقيدة ..كلُ تحت عباءة من التواضع والرصانة .. ولكن الأهم من هذا وذاك..الكرم فى المعلومات – وهو الأمر الذى لم أكن أتوقعه نظراً لأنى غير مسيحية -.

وبين الإقدام والإحجام ..تجرأت على بعض المداخلات فى أثناء حواره.. والتى جاءت تلقائياً بعد أن بدأت بالإسترخاء والعودة بظهرى إلى نهاية المقعد.. وبعد أن تأكدت أن إلحاحى لمقابلة إيزاك فانوس وزيارتى له كانت صائبة. وبعد عدد من هذه المداخلات.. توقف عن الحديث برهةً وقال لى "إنتى باين عليكى كويسة يا زينب وفاهمة " !.. فابتسمت خجلاً وأشرت إليه برغبتى فى مزيد من الإستماع..، وفى أثناء حديثه المتواصل والشيق..سرحت لبرهة وتذكرت موظفة الإستعلامات..،

فبدأت ألعن (سلسفين) الجهل والخيبة اللذان يغزوان مجتمعنا المصرى سالف العظمة والمجد..، كما بدأت أشعر بالضآلة وقد ارتضيتها فى مواجهة هذا الفنان والرجل العلاّمة. المهم ... فإلى من لا يعلم من هو إيزاك (أى اسحاق) فانوس سواء من المسلمين أو حتى من المسيحيين .. أبلغه تحياتى وأطمئنه ..أنه من المؤكد وجود العشرات - على أقل تقدير - من عينة إيزاك فانوس الذين لا نعرف عنهم شيئاً..وعلى كلٍ فهو فنان مصرى مسيحى كبير.. ولد فى 19 ديسمبر سنة 1919.. وحصل على البكالوريا من مدرسة الخُرنفش الفرنسيه وإلتحق بكلية الفنون التطبيقيه فتخرج عام 1941 وكان أول دفعته ، و بالمتحف القبطى تعرف على الفنان راغب عياد الذى قدمه إلى بطرس باشا سميكه والذى بدوره أعطاه فرصة التواجد للعمل بعض ساعات بالمتحف القبطى فتعرف وقتها على عمالقة القبطيات مثل المهندس حنا سميكه والفنان يسى عبد المسيح ود. رؤوف حبيب، حصل‏ ‏علي‏ ‏الدكتوراه‏ ‏في‏ ‏الدراسات‏ ‏القبطية‏ ‏عام‏1958 ..‏كما‏ ‏حصل‏ ‏علي‏ ‏منحة‏ ‏دراسية‏ ‏بمتحف‏ ‏اللوفر‏ ‏بفرنسا‏ ‏في‏ ‏منتصف‏ ‏الستينيات حيث درس ‏الفن‏ ‏‏في‏ ‏معهد‏ ‏(سان‏ ‏سيرج)‏ ‏تحت‏ ‏إشراف‏ ‏الرسام‏ ‏الأيقوني‏ ‏الروسي‏ الشهير (‏ليونيد ‏أوسبنسكي)‏ . عاد (إيزاك) إلى مصر محملاً بخبرة وطاقة ورغبة عارمة فى إحياء فنون أجداده ..فمزج فى أعماله وأيقوناته بين الفن القبطى الذى تتضح فيه معالم المصرى القديم وبين الأساليب التحليلية الحديثة التى تعرف عليها عن قرب فى أعمال الفنانين الغربيين ..فخرج بأسلوب جديد متميز..حيث تتبع خطاه العديد من التلاميذ الأقباط فى مصر وشتى أنحاء العالم..، فلقد وصل إليهم إيزاك عندما استدعته كبرى الكنائس فى بلاد المهجر بأمريكا وكندا وأستراليا وإنجلترا لمعالجة أسطحها وجدرانها تشكيلياً. بأسلوبه الحديث والفريد وبفهمه العميق وفلسفته وإيمانه عُد إيزاك رائد الأيقونة المصرية الحديثة..فكتبت عن أعماله كبرى دور النشر فى العالم..وتناولت حياته وأعماله العديد من المقالات والكتب الغربية – منها الفرنسية والأمريكية بشكل خاص – وذلك فى أثناء جهل عميق وتجاهل طويل من أبناء بلده. لقد كرمته الكنيسة القبطية .. أى نعم .. ولكن ماذا عن باقى المواطنين لاسيما المهتمين ..، فإذا سأل أى إنسان طالب بكلية الفنون الجميلة حيث من المفترض أنه يدرس تاريخ الفنون ومنها القبطية ..لما عرف الطالب ولو كان حتى فى مرحلة الدكتوراه..من هو إيزاك فانوس..، بل سوف يقول هو الآخر مثل موظفة الإستعلامات: (إيه)؟ . هذا الفنان الذى عاش حياته كلها يأصل ويطور ويبدع فى ميراث أجداده وتراثهم..فبهر العالم ونحن فى غفلة من ذلك..، فعلى سبيل المثال عندما كنت فى إحدى المقابلات معه فى مرسم الكاتدرائية..أتى عروسان جديدان من لبنان يبحثان عن د/ إيزاك فانوس بشكل خاص ليقتنوا منه أيقونة..، ولما بلغا مرادهما طلبا منه (إذا كان يعنى ممكن تكتب لنا هون باليونانى إسم العدرا)؟ فغضب الرجل وكظم غيظه وقال: (إنتوا عايزين فن قبطى يعنى نكتب بالقبطى..، مش كده؟) ..، قالها وهو متشبثاً بنظرته الحادة لهما مبتسماً ابتسامة مستنكرة. إن الناظر لبعض أعمال إيزاك فانوس فى الفسيفساء والزجاج الملون وبخاصة فى ثمانينيات القرن العشرين.. سوف لن يشعر فى أغلب الأحيان بالرضى – إذا كان من المتخصصين فى مجال الفن أو من المتذوقين على أقل تقدير- وذلك لسوء تنفيذ أو توظيف هذه الأعمال ..، فهذه الأعمال وإن كانت من إمضائه فهى لم تنفذ فى أغلب الأحيان بيده..، وهو الأمر الذى تحدث هو عنه شخصياً ..، وإنه من خلال خبرتى المتواضعة فى مثل هذه النوعية من الأعمال..أشهد أن ابداع هذا الفنان قد تجلى فى التصميم..والقدرة على المزج بين الحس القبطى الذى برع هو فى اللعب بعناصره وخصائصه من ناحية وبين ما يتطلبه المسطح المختلف فى نوعه وملمسه ووظيفته من ناحية أخرى، لقد استفاد إيزاك فانوس من ذاكرته البصرية المكتسبة بدول الغرب وكاتدرائياتها المهيبة.. وخاصةً فى الحس التصميمى العام ..ولعّل ذلك يتضح فى معالجته لخلفيات النوافذ الكبيرة المنفذة بتقنية الزجاج المؤلف بالرصاص.. إن ما أضافه الفنان رمسيس ويصا واصف من أجواء صوفية وروحانية إلى القيمة الأصيلة الموجودة بالكنيسة القبطية يمكن اعتباره قمة الإبداع المصرى المعاصر فى الكنيسة دون إهدار للقيمة التراثية لها..، ف(واصف) بخبرته المعمارية استطاع أن يخدم رؤيته التشكيلية..، أما إيزاك ..فكان فى أغلب الأوقات عليه التعامل مع الأسطح المعمارية كما هى ..ما أدى إلى صعوبة الحلول الجذرية لهذه المسطحات. ولقد تسنت لإيزاك فانوس فرصة ذهبية فى إبراز عبقريته الفنية فى كنيسة العذراء ببطريركية الأقباط الكاثوليك بمدينة نصر حيث كان التصميم المعمارى (لكل من منير وسمير بديع يسّى) سنة 1986.. من أهم ما ساعد على تحقيق الوحدة العضوية بين العمارة وما تحتضنه من فنون حميمة غير دخيلة . وفى ذكرى مرور عام – يناير2007 - على رحيل إيزاك فانوس كتبت هذا المقال، وأنا أعتذر منه لعدم مقابلتى له قبل ذلك الوقت ..فلم ولن يكفينى محافظتى على اتصالى به الدائم قبل هذا الرحيل..وأتمنى أن تدّرس أعمال وفلسفة هذا الرجل الذى قد يطول عنه الحديث دون توقف - وغيره من المصريين -.. لطلبة الكليات والمعاهد المصرية التى قد تتطلب الإلمام بمثل هذه المعارف.. إن لم يكن على قدم المساواة بالفنانين الغربيين الذين ندرس تاريخهم وفنونهم فقبلهم ..، كما أعتذر من أى - إيزاك فانوس – آخر فيكى يا مصر..لم يكن إسمه مدرجاً بدليل التليفونات.
د.زينب نور
فنانة تشكيلية ومدرس بكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان بالزمالك

Comments

rasha nabil said…
يا سلام عليكى يا دكتورة دائما تبحثين وتكشفين عن الدرر المختفية تحت غبار الجهل و النسيان
Ghada Elzayat said…
شكرا دكتوره علي المعلومات الثريه وحقيقي انت مقاليه ممتازه واسلوبك شيق جدا وسلس احيكي واشكرك علي التبسيط الي يسهل علي كل مطلع المتابعه حتي النهايه ودي طبعا من عبقريتك في الاداء شكرا مره اخري وفي انتظار المزيد
د.غاده الزيات
zeinab nour said…
رشا اشكرك على مرورك وكلماتك الرقيقة مثلك تماماً
zeinab nour said…
الدكتورة الجميلة غادة الزيات
اشكرك على المرو والقراءة الى النهاية
تحياتى وامنياتى دائما

Popular posts from this blog

عبقرية الرمز القبطى - بحث فى جذوره المصرية

ارحموا عزيزَ فنٍ ذَل

الرمز فى الاسطورة المصرية القديمة1