الرمز فى الاسطورة المصرية القديمة 2

فى عودةٍ للحديث عن الرمز عند المصرى القديم لاسيما فى اساطيره ..نجد أن عند المصرى القديم كانت للرمز قيمة فى حد ذاته فهو - كما ذكر ” مانفرد لوركر ” فى معجمه عن الرموز المصرية - بالنسبة له واقع وحقيقة ولا يعنى اللون الأحمر بالنسبة له الحياة فقط بل أنه مخضب بالحياة ذاتها وقد يجعل البعث ممكناً بعد الموت”،”ويعتمد الاستدعاء الرمزى بأكمله على أشياء مفترضة هى فى النهاية اتصال حقيقى بالأشياء تعتمد على العلاقة بين العالم الصغير (الإنسان) والكون المنظور (الكائنات) ، فالرمزية هنا عبارة عن رؤية شاملة وكاملة لما يجب أن تكون عليه علاقة الإنسان بالكون ومخلوقاته من ناحية وبالإله من ناحية أخرى .. وهى علاقة لطالما قد سعى المصرى القديم إلى جعلها مستقيمة.. معتدلة ..عادلة وهى الفكرة التى تجسدت فى رمز ( ماعت )* ربة العدالة والضمير الكونى والمقاييس المنضبطة والنظام فى شتى صور الحياة وبالأخص الفنون¨..، وجاءت نظرية البعث وأمنية الخلود استكمالاً لهذه الرؤية العقائدية الناضجة.. وهذه النظرية وتلك الأمنية كانتا من أهم أواصر التماسك بين أفراد المجتمع المصرى القديم حيث شكلتا منتهى آمال وأهداف الإنسان المصرى البسيط الذى ارتبط هو الآخر بالمعبد وبكهنته وبملكه خليفة الله على الأرض.. وهو الخليفة العادل الذى يحكم تبعاً لقوانين الإله حتى تستقيم شتى صور الحياة .. فلقد ارتبطت حياة المجتمع المصرى بالإله، حيث اعتمد هذا المجتمع على الزراعة وموعد الفيضان واستقرار الأجواء والطبيعة المحيطة به وبالتالى كانت هناك أهمية كبرى وأساسية لمدى رضا الإله عن هذا الشعب وتلك الأرض.. فكان على هذا المجتمع المصرى المزيد من السعى الى التقرب إلى الإله من خلال تلك المنظومة المتكاملة – السابق الإشارة إليها – والتى سوف تصل به الى الحياة الأخرى بأمان..، والجدير بالذكر أنه بالرغم من هذا العمق البعيد للرمز عند المصرى القديم إلا أن هذا لم يخلق جواً من المغالاة والتطرف فى هذا المجتمع ، حيث عرف عنه الوسطية فى شتى صور حياته.. وحتى يومنا هذا ، والتى يرجعها علماء الإجتماع إلى الوسطية التى وهبها الله للمجتمع المصرى فى الموقع والمناخ . وبالرغم من تخبط آراء العلم الحديث إلى يومنا هذا حول العديد من الأمور التى تتعلق بالدلالات الرمزية لدى المصرى القديم إلا أن هذا المصرى الذى ابتدع هذه الرموز وكما يرى علماء المصريات ..أبداً لم تختلط عليه الأمور بين رموزه وما ترمز إليه من قوى عُليا وغيبية وكان يعلم أن الصفة تختلف عن الموصوف .. فبينما نجـد العديد من الشعوب قد حدث لها ذلك فعبدت الرموز وتركت أو نسيت ما كانت ترمز إليه ، إلا أن ذلك لم يحدث للمصرى القديم.. إلا ربما فى فترات انحدار قد أصابت شتى مظاهـر الحيــاة فى مجتمعه القديم، ولا سيما فى الفترة ال
Greco- Roman
حيث كانت قد مرت فترات زمنية طويلة على عهود الاستقرار بالبلاد واختلطت الرموز الدينية والآلهة الغريبة بالمحلية، كما أن الإلتباس الذى يحدث فى عقولنا نحن المعاصرين للقرون الحديثة كان هناك دائماً عند المصرى القديم ما يمحيه ويأتى مكانه باليقين والتثبت، وربما يكون ذلك بواسطة حدٍ رفيع فاصل بين الأفكار ورموزها لازلنا لا نعرفه بشكل قاطع.. وإنما يسعى جمهور العلماء سعياً دؤوباً للتعرف على أسرار المعرفة أو الحكمة لدى المصرى القديم والتى جعلته فقيهاً فى تنسيق العناصر المتناقضة لهذه المنظومة الرمزية.. وذلك كله فضلاً عن إمكانية تطور استخدام الرمز الواحد من عصر إلى آخر أو تغير معناه أو لونه أو موقعه من نص إلى آخر عند المصرى القديم ، فعلى سبيل المثال يفسر العالم ” مانفرد لوركر ” فى معجمه هذا الأمر بنموذج ” للقطة ” .. حيث “كانت تظهر المعبودة ” باستت ” فى صورة قطة لطيفة أليفة ارتبطت مع النساء بالموسيقى والرقص وتظهر نفس المعبودة أيضاً ولكن تحت اسم “سخمت” على هيئة سيدة مدمرة مخيفة متعطشة لدماء القتل ممثلة برأس لبؤة ، ” غير أن هذا التشابه والاختلاف يرجع إلى ما يسميه عالم النفس السويسرى ” كارل جوستاف يونج ” على هذه الصور اسم ” النماذج الأصلية “..
فتبعاً لهذه النظرية تنتمى رموز كل من القط والأسد إلى ” الأم العظيمة ” أى النموذج الأصلى ، فهى التى تلد وهى التى تلتهم أو هى الإلهة الأرضية التى تخرج منها جميع أنواع الحياة “، وهذا بالطبع تفسير منطقى للرؤية المصرية الفلسفية الشاملة والحاضنة للأفكار الإنسانية وتطوراتها وأيضاً تداعياتها ..، فإذا كان الإنسان الحديث والمعاصر يرى فى الرموز المصرية القديمة ما يناقض نفسه إلا أنه فى حقيقة الأمر لم يكن هذا التناقض عند المصرى القديم إلا تعبيراً عن قطبى الوجود أى الحياة والموت والخير والشر والنور والظلام .. فنجد على سبيل المثال أن ( أوزير ) المصرى هو رب العالم السفلى ولكنه قد لقب بسيد السماوات.. وهكذا.
كما أننا نجد من التفسيرات الأخرى لهذه الرؤية ما يذهب نحو مزيد من التعمق .. فالعالم ”ريتشارد ويلكنسون” يعتقد ويدلل على اعتقاده فى كتاب يستفيض فى هذه الدراسة بأن الرمز عند المصرى القديم كانت من أهم وظائفه السرية هى أن يوحى (أو يظهر) وأن يخفى فى آن واحد..، فهو يوحى عن طريق استدعاء مظاهر من الواقع.. بينما يخفى عن طريق الحد من الجمهور أو الفئات التى من شأنها أن تفهم هذه الرسالة..، والجدير بالذكر أن رغم وجود مثل هذه الدراسة الموسعة التى قام بها هذا العالم إلا أنه يقر أن مثل هذا التفسير ربما يكون بمثابة المفتاح فقط الذى بواسطته نحاول أن نفهم أكثر العالم عند المصرى القديم.وقد لا يقلل هذان التفسيران أحدهما من أهمية الآخر .. بل بالعكس من الممكن أن تتم اضافتهما إلى بعضهما البعض .. إلا أن التفسير الثانى قد يشكل أهمية كبرى عند الإشارة إلى تأثر المسيحيين الأوائل والفلاسفة وجماعات الغنوصيين** بهذه الروح فى استخدام الرمزية التى تخفى وتوحى فى آن واحد ..، وعلى كلٍ فإن التفسير الأول والذى ينتمى إلى نظرية ”النماذج الأصلية” من الممكن أن يُظهر بوضوح مدى تأثير الرمز عند المصرى القديم على من تلاه من مفكرين ومشرعين فى العصور اللاحقة له.. وخاصةً المسيحيين .. فكما ذكر ”كارل جوستاف يونج” : أن الصور والخيالات لا تقترب من الإنسان فى العالم المرئى فقط ، ولكنها توجد كذلك فى أعماق نفسه ، فى منطقة العقل الباطن (اللاشعور) ، وقد تظهر تلك الخيالات للشخص إلى الآن فى الأحلام أو فى أحلام اليقظة”، وإن هذه النظرية من شأنها أن تؤكد ما سبق ذكره بأن عقيدةً ما .. بدأت واستمرت لآلاف من السنوات لابد وأن تشكل أثراً بالغ القوة على ما يليها من تشريعات عقائدية.. ولكن فى هذه المرة نخص من خلالها الرمز المصرى القديم بمختلف أشكاله ، فإن لم يكن استخدام الرموز المشابهة أو المحورة عن الرمز المصرى الأصلى فى طقوس ديانات وعقائد أخرى تالية بقصد الإستلهام .. فإنه قطعاً سوف يكون منطقياً فى ضوء هذه النظرية.. ألا وهى انعقاد ودمغ صورة هذه الرموز فى الوجدان الإنسانى..لدرجة إعادة استخدامها وربما دون وعى العقل الظاهر لأصولها الأولى ، وربما لم تأتي هذه المنظومة الرمزية عند المصرى القديم بهذه القوة وهذا العمق والحصافة إلا لأن أصل عقيدته لم تكن بالفعل وثنية ، وإن من يتبحر فى هذا الشأن باستطاعته الإقتراب من هذا الإعتقاد.. ولكن ومن ناحية أخرى فإذا كان استقاء واستلهام العديد من الحضارات والتشريعات الدينية من المصرى القديم قد جاء فى شكل وثنى صريح وسطحى ، فربما كان هكذا نظراً لأن هذا الإستلهام لم يكن عن فهم عميق أو معايشة كافية لبواطن الأمور.
وبشكل عام فإننا قد تطرقنا لمثل هذه الآراء للخروج باستدلال هام..، فبتتبع مثل هذه الأبحاث العلمية والآراء الأكثر حداثة يتكشف لنا مزيدًُ من الأمور التى تأخذ تطبيقات ونتائج هذه الأبحاث فى سياقات مختلفة عما سبقها .. حيث سيتضح لنا مما سبق أنه إذا كان الفكر العقائـدى لدى المصرى القديم قد وصل الى هذا الحد من الرقى والنضج .. فإن هذا التوجه الرمزى فى شــتى صور حياته وعلى الأخص فى فنونه قد جاء بهذه القوة وهذا التميز فى الروحانية التى جعلت له آثاراً ملموسة فى الفنون التاليـة له وعلى الأخص الفنون المسيحية الشرقية (بل والفنون المسيحية الغربية أيضاً) ، فالمسألة هنا ليست بمثابة إرث تراثى وحسب.. ولكنه إرثُ ذو بعد فلسفى غايةً فى التأثير.. اســتطـاع أن يـخترق - خلسـةً أو عن عمد - المجتمع المصرى عبر فصول تاريخه التالية من خلال أصحاب الفكر والمعرفة أو لنقل رسل المعرفة المقدسة والمتواجدين فى كل زمان ومكان من العالم ، لنجد أن حتى مثل هذه التأثيرات قد جعلت إسلام القرن السابع الميلادى فى مصر وحتى الآن مختلفاً عن باقى أقطار العالم.. ولاسيما العربى والذى لا يفصل بيننا وبينه سوى بحرٍ. __________________________________ * ماعت هى التى يرمز لها بريشة النعامة التى كانت توضع فى إحدى كفتى الميزان عند الحكم على الميت فى محكمة العالم السفلى فى تصور المصرى القديم والذى كان فى حياته دائماً ما يسعى للتوافق مع النظام الكونى والإلهى وليسمى
Maati
أو الصدّيق أى صديق لماعت .. وفى رؤية أخرى أن ماعت هى إحدى تجليات أوزير،ويلاحظ استخدام المجتمعات الحديثة إلى يومنا هذا شكل امرأة تحمل الميزان فى قاعات المحاكم وهى مغمضة العينين ..، وإن استمرار تواجد (ماعت) فى بعض رسوم تل العمارنة لهو أكبر دليل على تجسيدها لفكرة العدالة التى تطلع صوبها المصرى القديم على مر عصوره .. وليس لكونها إلهة .. .. * * جماعات الغنوصيين : جماعات ذات فلسفة خاصة بهم تركز على المعرفة باعتبارها أول الطرق لمعرفة الإله ومعرفة النفس (اللدنية) وقد عاشت هذاه الجماعات فى القرون الميلادية الأولى قد يتم الحديث عنهم بالتفصيل فى مقالات قادمة وذلك لإرتباطهم الفكرى الوثيق بالمصرى القديم. ………. د.زينب نور – مصر مدرس بكلية الفنون الجميلة – جامعة حلوان بزمالك n_zeinab@hotmail.com

Comments

Popular posts from this blog

عبقرية الرمز القبطى - بحث فى جذوره المصرية

ارحموا عزيزَ فنٍ ذَل

الرمز فى الاسطورة المصرية القديمة1